Thursday 23 October 2008

story

وما زال قابيل يقتل أخاه
تعالت الثرثرة ، داخل الخزينة المغلقة ، بين إثنين من الجنيهات المطبوعة حديثا . قال أحدهما للآخر : هل ترى ياصديقى أننا سنكون معا دائماً ، نعمل سوياً على إسعاد الناس ؟؟
فرد الآخر : كلا ياصديقى العزيز ، فأنا طريقى غير طريقك ، فأنا سأكون أداة للشر فى كل وقت
وقبل أن يتم حديثه ، فتحت الخزينة ، وإمتدت إليه هو وصديقه يد الصراف ، وراحت تضمهما إلى ورقتين فئة الخمسون جنيها وثلاث ورقات فئة العشرة جنيهات ، وتلقفتها يد مرتعشة لرجل تعدى الخمسين من عمره ، وقد إنحنى ظهره قليلا ، وراح يقرب الأوراق من زجاج نظارته السميك ، ويعدهم مرة تلو الاْخرى
نعم أنهم مائة وإثنين وثلاثون جنيها ، قالها بمرارة وهو يغادر موقعه من أمام الصراف
راح يحدث نفسه ، ماذا تفعل هذه الجنيهات القليلة وسط أسعار تزداد يوما بعد يوم ، فى أسرة تزداد متطلباتها أيضا ، بعد خمس وعشرون عاما قضاها فى وظيفته ككاتب فى وزارة الصحة ، تكون العلاوة مع الترقية ككاتب أول ، جنيهان فقط ، ماذا تفعل هذه الملاليم القليلة ؟؟؟ أنه يذكر أن قميصه الذى يرتديه قد إشتراه منذ ثلاث سنوات ، والبدلة القديمة التى يرتديها فى المناسبات كان قد إشتراها من سوق الكانتو بحى الموسكى منذ عشر سنوات حتى أنه لم يدخن سيجارة منذ سنوات لا يذكر عددها ، ولم يكن ذلك التوقف للحفاظ على صحته ، ولكن من ضيق ذات اليد ، أنه يأخذ فقط من زوجته مصروف يومى خمسون قرشا لتغطية تكاليف المواصلات ، وثمن فنجان من القهوة أو الشاى
جلس مصطفى أفندى على مكتبه ، وراحت تداعب خياله فكرة جريئة ، أن زوجته لا تعلم أن العلاوة جنيهان ، أنها تعلم فقط أنة سيأخذ علاوة ، إذن فليخبرها أن العلاوة جنيهاً واحداً ، وطبعاً سيكون معه الجنيه الآخر يصرفه كما يشاء ، وداعبت فكره ، رائحة السيجارة ، فنادى على الساعى طالبا منه أن يحضر علبة سجائر مع فنجان القهوة
وذهل الساعى .. قائلا : علبة سجاير يامصطفى أفندى ؟؟؟
أجاب مصطفى أفندى ( وهو يبتسم ) : أيوه ، وتكون سوبر كمان
رد الساعى : بس يامصطفى أفندى ، مفيش سوبر ، كلة دلوقتى مستورد
تردد مصطفى أفندى قليلا ، وسأل الساعى : المستورد بكام ؟؟
أجاب الساعى : العلبة بجنيه
قال مصطفى أفندى ( وقد شعر بألحرج ) : ماشى ، هات علبة مستورد ، وأخرج من جيبه جنيهاً يبرق ويلمع
هنا قال الجنيه لصديقه : الآن نفترق ياعزيزى ، وربما نجتمع يوماً ما
ومرت سنوات ، وتم اللقاء ثانية ، وسط حزمة كبيرة من العملات الورقية البالية ، داخل إحدى قاعات البنك المركزى ، قبل إعدامها
قال الصديق لصديقه : ها نحن مرة اُخرى معاً ، ولكن بعد أن أصابنا الكبر ، ونحل جسمنا وأصبح هشاً
رد الآخر : نعم ، ولكن أخبرنى ماذا فعلت طوال غيبتنا ؟؟؟
راح ينظر لصديقه ، وشرد قليلاً ، وكأنه يستدعى من الذاكرة شريط الذكريات
قال : عندما إفترقنا ، وكنت أنا ثمناً لعلبة سجائر ، يهلك دخانها وما به من سموم ، صدر مصطفى أفندى ، ويدمر رئتيه .دخلت إلى حافظة صاحب الكافيتريا ، التى إشترى منها الساعى السجائر ، كان هناك مجموعة كبيرة من الأصدقاء تعرفت عليهم ، ذهبت مع معظمهم فى المساء ، ثمنا لقطعة من الحشيش، ماركة كله يدلع نفسه ، على قهوة المعلم عزوز ، فى حى الشرابية .وبعد أيام ، كنت مع بعض الأصدقاء ، ثمناً لزجاجة ويسكى ، وسهرة حمراء فى منزل الراقصة ، زيزى زغزغنى .وبعد أيام ، أخدنى بلطجى مع بعض أصحابى ، وهوه بالمناسبة البودى جارد للراقصة زيزى زغزغنى ، المهم ، على مائدة خضراء للعب القمار ، وضعنى وكنت مع بعض أصحابى ، ومنهم أصحاب جداد إتعرفت عليهم على المائدة الخضراء ، كنا مكسب سهل لمدير كبير فى شركة إستيراد وتصدير ، من إللى بيقولوا عليهم القطط السمان .. الراجل المهم ده ، إستبدلنى مع أصحابى إللى كسبهم ، بدولارات من تاجر عملة مشهور جداً لكل الكبار ، المهم ، إستورد بولوبيف كلاب ، وكمان فاسد وإنتهت صلاحية أكلة للكلاب ، وأكله للشعب ، إللى معدته بتهضم الزلط فى العيش ، يبقى مش حتهضم شوية بلوبيف كلاب فاسد ..المهم ، تاجر العملة إللى خدنى مع أصحابى ، إشترى بينا أرض وبنا عليها برج ، إنهار بعد سنة واحدة والمقاول إللى خدنى ، دخل السجن ، المهم رحت مع بعض أصدقائى كرشوة لشخصية مهمة علشان يخرج المقاول براءة ، وداخل فيلا فى الساحل الشمالى ، كان حته من جسمى بتتحرق وأنا اُشعل سيجارة عشيقة البيه المهم ، وبعدين لما رمانى على الأرض ، لقطنى أحد الخدم ، وحاول يشترى بيه أكل لعياله ، ولكن صاحب المطعم مرضيش ، عشان حته منى محروقة ، وقال له إستبدله من البنك ، وأخيرًا وصلت هنا فى البنك المركزى ، ودي كانت رحلتى كلها
قال الصديق الآخر : إن رحلتك كانت متعبة حقاّ ، أما أنا فقد ذهبت إلى منزل مصطفى أفندى ، وأخذ تنى يد زوجته وقبلتنى ، ثم كنت ثمنا لخضروات وفاكهة أكلوها بالهناء والشفاء ، ثم إنتقلت مع أصدقاء آخرين الى فلاح طيب ثمنا لكمية من الفاكهة والخضروات ، ثم كنت بعد ذلك مع بعض الأصدقاء ثمنا لجاموسة قام بشرائها الفلاح ، والفلاح الذى أخذنى دفعنى مع بعض أصدقائى ثمناً لثياب جديدة بعد موسم الحصاد ، والتاجر الذي أخذنى مع بعض أصدقائى تبرع بنا لبناء مسجد ، وكنت فى يد أحد العمال ممن شاركوا فى البناء ، وكان يضعنى فى جيبه ، ومن كثرة عرقه بدأت أذوب وينحل جسمى ، وذهب يوما ليأكل فى مطعم ، وعندما أعطانى لصاحب المطعم ، ورأى نحولى وذبولى ، وعلم أن العامل لا يملك غيرى ، فقرر صاحب المطعم أن يعطى العامل ما يريد من الطعام ، وأن يأخذنى ويستبدلنى من البنك ، وهكذا حضرت الى هنا
قال الجنيه الخير : ألا تري بأنك كنت شريراً لدرجة كبيرة ؟؟؟ ألم تراجع نفسك أبداً ؟؟
رد جنيه الشر : عزيزى الجنيه الطيب ، كما أن الخير مطلوب ، فكذلك الشر أيضاً ، نحن وجهين لعملة واحدة ، لا تستغنى أحداهما عن الأخرى ، مثل الليل والنهار ، مثل الحر والبرد ، مثل العطش والإرتواء ، مثل الجوع والشبع ، مثل الحضارة والدمار ، مثل الحياة والموت .أن الحياة بتداخلاتها الرهيبة ، تعمل بناموس أزلى ، أراده الله ، الخالق لها وللناموس ، فى مسيرتها التى لا يعلمها الا الله ، فقد خلق قابيل وهابيل من آدم ، وقتل قابيل أخاه ، لخلافهما على من يتزوج من اُخت قابيل ؟؟؟ وليس القاتل هو الشر ، والمقتول هو الخير ، ففى ذلك حكمة ، لقد رسم الله لنا طريق الخير ، وطريق الشر وكان أن خلق العقل للتمييز ، فكان لنا أن نميز بعقولنا ، التى ميزنا الله بها عن كل مخلوقاته .أن الطهارة والإيمان لا تكون بألصلابة والإقتناع ، اِلا إذا كان الفجور وكل الشرور موجودة ، فإذا قاوم الإنسان النفس الأمارة بألسوء ، وسيطر عليها هنا يكون إيمانه بيقين ، ولكن إذا لم توجد الشرور ، فسيكون الإنسان مؤمن رغما عنه ، فلا خيار آخر ، بل هو مسير فى إيمانه ، والجميع سيصبحون ملائكة ، بلا مقاومة ، وبلا شعور .. إذن لا بد أن تكون الحكمة ، أن يوجد الشر ، بجانب الخير ، حتى يقاوم كل منهما الآخر ، وتتنازع النفس البشرية ، ويعمل العقل ، ويخير الإنسان
إن الله لو شاء لجعل الناس اُمة واحدة ، كلها خير وصلاح وتقوى وإيمان ، ولكن الله يريد لعبده ، أن يعبده عن حق ، وهنا خلق العقل للإنسان ، وسبب الأسباب بناموس أزلى ، وأوجد طريق الخير ، وطريق الشر
فإما أن تعلو ، وتسمو
أو تنحدر ، وتهبط
ومن هنا يكون الحساب

No comments: